فصل: فصل في ضَرَرِ الذنوبِ والمَعَاصِي في القَلْبِ كَضَرِرِ السُّمُومِ فِي الْأَبْدَانِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في تأثير الذنوب في نقصان العقل:

ومن عقوباتها أنها تؤثر بالخاصة في نقصان العقل فلا تَجدُ عاقِلين أَحَدهما مُطِيعٌ والآخرُ عاصٍ إِلا وَعَقْلُ المطيع منها أَوْفَرُ وأَكْمَلُ وفِكْرُهُ وَرَأَيُهُ أَسَدُّ والصوابُ قَرِينه.
ولِهَذا تِجَدُ خِطاب القُرآن إنما هو مَعَ أولى الألباب والعقول كقوله: {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} وقوله: {فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} وقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} ونظائر ذلك كثيرة.
وكيف يكون عاقلاً وَافِرَ العقل مَن يَعصِي مَن هو في قبضته وفي داره وهو يعلم أنه يراه ويشاهده فيعصيه، وهو بعينه غير متوار عنه ويستعين بنعمه على مَسَاخِطه ويَستدعِي كل وقت غَضَبَه عليه ولَعْنَتَهُ له وإِبعادَهُ مِن قُرْبِهِ، وطَرْدهُ من بابه وإعراضَه عنه وخذلانَه له والتخليةَ بينه وبين نفسه وعدوه وحرمانه من رضاه وحبه، وقرة العين بقربه والفوز بجواره والنظر إلى وجهه في زمرة أوليائه إلى أضعاف ذلك مِن كرامة أهل الطاعة وأضعاف أضعاف ذلك مِن عقوبة أهل المعصية.
يَا ذا الذي حَمَّلَهُ جَهْلُهُ ** مِن الْمَعَاصِي فَوْقَ ما يَقْوَى

البَسْ مِنْ التَّوْبَةِ دِيباجةً ** مُعْلَمَةً بالنُسْكِ والتَقْوَى

واعْلَمْ بأنْ لَسْتَ تُرَى نَاجِيًا ** إِنْ لَمْ تُطِعْ مَنْ يَعْلم السِّرَ والنَّجْوى

آخر:
قِفَا نَبْكي مِن عظمِ الذُنُوبِ وَفتكِها ** وَتَضْيِيْعِنا الأَوقات في غَيْر وَاجِبِ

ونَسْتَدْركُ الماضِي بِتَوبَةِ صَادِقٍ ** وَنَسْتَقْبِل الآتِي بِجِدِّ المُوَاضِبِ

وَنَعْمَلُ أَعْمَالاً حِسَانًا لَعَلّهَا ** تُكَفِّرُ عَنَّا مُفْضِعَات المَعَائِب

آخر:
إِذَا المَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ لِبَاسًا من التُقَى ** تَقَلَّبَ عرْيَانًا وَإِنْ كَانَ كَاسِيًا

وَخَيْرُ خِصَالِ المرءِ طَاعَةُ رَبِهِ ** ولا خَيْرَ في مَنْ كَان لِلَّهِ عَاصِيًا

فأي عقل لمن آثر لذة أو يوم أو دهر ثم تنقضي كأنها حلم لم يكن على هذا النعيم المقيم والفوز العظيم؟ بل هو سعادة الدنيا والآخرة.
ولولا العقل الذي تَقُوم عليه به الحجة لكان بمنزلة المجانين، بل قد يكون المجانين أحسن حالاً منه وأسلم عاقبة، فهذا مِن هذا الوجه.
وأما تأثيرها في نقصان العقل المعيشي فلولا الاشتراك في هذا النقصان لَظَهَرَ لِمُطِيعِنَا نُقْصَانُ عقل عاصينا، ولكن الجائحة عامة، والجنون فنون.
ويا عجبًا لو صَحَّتِ العُقُولُ لَعَلمت أَنَّ الطرِيقَ الذي يحصل به اللذةُ والفرحةُ والسرورُ وطيّبُ العيشِ إنما هو في رضاء مَن النعيمُ كُلُه في رِضَاه والألمُ والعذابُ كله في سَخَطِهِ وغَضَبِهِ.
ففي رضاه قرةُ العيون، وسرورُ النفوس، وحياةُ القلوب، ولَذَّةُ الأرواح، وطِيبُ الحياةِ ولذةُ العَيشِ وأَطْيَبُ النعيم ممَّا لَو وُزنَ منه مثقالُ ذَرةٍ بنعيم الدنيا لم تَفِ بِهِ بل إذا حَصلَ لِلقلْبِ مِن ذلكَ أَيْسَرُ نَصِيبٍ لم يَرْضَ بالدنيا وما فيها عَوضًا منه.
ومَعَ هذا فهو يَنْعَمُ بنَصِيبِهِ أَعْظَمُ مِن تَنَعُّم المترفين فيها، ولا يَشُوبُ تَنَعُّمهُ بذلك الحظِ اليسيرِ ما يشوبُ تَنَعُمُّ المترفين مِن الهموم الغموم والأحزانِ والمعارضاتِ، بل قد حَصَلَ على النعيمين وهو ينتظر نعيمين آخرين أعظم منهما. انتهى.
لِلَّهِ قَومٌ أَطَاعُوا الله خَالقَهُمْ ** فآمَنُوا واسْتَقامُوا مِثْلَ ما أَمروا

والوَجُدُ والشوقُ والأفْكارُ قُوتُهمُوا ** ولازَمُوا الجِد والادْلاجَ في البُكَر

آخر:
إِذا ما كَسَاكَ لله سِرْبَاك صِحَّةٍ ** وَلَمْ تَخْلُ مِنْ قُوتًا يَحِلٌ ويعذُبُ

فلا تَغْبِطَنَّ المُتْرَفِينَ فَإِنَّهُمْ ** بِمِِقْدَارِ مَا يُكْسُونَ في الوْقَتِ يُسْلَبُ

آخر:
أَفادَتْني القَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍ ** وَأَيُّ غِنىً أعَزَ مِنَ القَنَاعَةْ

فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِكَ رَأْسَ مَالٍ ** وصَيّرْ بَعْدَهَا التَّقْوى بضَاعَةْ

تَحُزْ رِبْحَيْنِ تَغْنَى عن بَخِيلٍ ** وتَنْعَمُ في الجِنَانِ بِصَبْرِ سَاعَةْ

آخر:
أَخَصُّ الناس بالإِيمانِ عَبْدٌ ** خَفِيفُ الحَاذِ مَسْكَنُهُ القِفَارُ

لَهُ في اللِّيْلِ حَظٌ مِن صَلاةٍ ** ومِن صَوْمٍ إِذَا جَاءَ النَّهَارُ

وقُوتُ النَفسِ يَأتِي في كَفَافٍ ** وكَانَ لَهُ على ذَاكَ اصْطِبَارُ

وفيه عِفَّةُ وبِهِ خُمُولٌ ** إِليْهِ بالأَصَابعَ لا يُشَارُ

وقَلَّ البَاكِيَاتُ عَليّه لَمَّا ** قَضَى نَحْبًا ولَيْسَ لَهُ يَسَارُ

فَذَالِكَ قَدْ نَجا مِنْ كُلِّ شَرٍّ ** ولَمْ تَمْسَسْهُ يَوْمَ البَعْثِ نارُ

اللَّهُمَّ قَوِ إِيمانَنَا بِكَ وبملائكتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وباليومِ الآخر وبالقدرِ خيرِه وشرِّهِ اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِطَاعَتِكَ وَحُلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعْصِيتِكَ وألْهِمْنَا ذِكرَكَ وَشُكْرَكَ واجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِين واغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلَّى اللهُ عََلَى نَبينا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبهِ أَجْمَعِينَ.

.فصل في ضَرَرِ الذنوبِ والمَعَاصِي في القَلْبِ كَضَرِرِ السُّمُومِ فِي الْأَبْدَانِ:

قَالَ ابنُ القَيّم رَحمَه اللهُ تعالى: ممَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الذنوبَ والمَعَاصيَ تَضُرُ ولابد أَنَّ ضَرَرَهَا في القَلْبِ كَضَرِرِ السُّمُومِ في الأبدان على اختلاف دَرَجَاتِها في الضَرَرِ. وهَلْ في الدُنيا والآخِرَةِ شَرٌّ وداءٌ، إِلا بِسَبَبِ الذُنوبِ والمعاصي؟
إِلى أَنْ قالَ رحِمَهُ اللهُ: فَمَا الذِي أَخْرَجَ الأَبَوَيْنَ مِنَ الجنةِ والنَعيمِ واللَّذةِ والبَهْجَةِ والسُرور إِلى دَارِ الآلام والأحْزَانِ والمصائِب وما الذي أَخْرجَ إبْليسَ مِنْ مَلَكوتِ السَمَاءِ وَطَرَدَهُ وَلَعَنَهُ وَمَسَخَ ظَاهِرَهُ وبَاطِنَهُ فَجَعَلَ صُورَتَهُ أَقْبَحَ صُورَة وأَشْنَعَهَا وبَاطنَهُ أَقْبَحَ مِنْ صُورَتِهِ وَأشْنَعَ وَبُدّلَ بالقُرْب بُعْدًا، وبالرَّحْمَةِ لَعْنَةً، وبالجَمَال قُبْحًا، وبالجنةِ نارًا تَلظَّى، وبالإيمانِ كُفْرًا، وَبِمْوَالاةِ الوَليّ الحَميدِ عَدَاوَةً وَمُشَاقّةً، وبزَجَلِ التَّسْبيحِ والتَّقْدِيسِ والتَّهْلِيل زَجَلَ الكُفْرِ والفُسوقِ والعِصْيَانِ، فَهَانَ عَلى الله تعالى غَايَة الهَوَانِ وسَقطَ مِنْ عَيْنِهِ غايَةَ السُقوط وحَلَّ عليْهِ غَضَبُ الربِّ تعالى فأهْوَاهُ، وَمَقتهُ أَكْبَرَ المَقْتِ فأرْدَاهُ، فَصَارَ قَوَّادًا لِكُلِّ فاسِقٍ ومُجْرِمٍ رَضِيَ لِنَفْسِهِ بالقِيادِةِ بَعْدَ تِلْكَ العِبَادَةِ والسِّيادَةِ.
فَعِياذًا بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ مُخالفَةِ أَمْرِكَ وارْتِكَاب نَهْيِك.
وَمَا الذِي أَغْرَقَ أَهْلَ الأَرْض كُلَّهمْ حَتَّى عَلا المَاءُ فَوقَ رُؤُوسِ الجِبَال. وَمَا الذي سَلّطَ الريحَ على قَومِ عادٍ حتى ألْقَتْهم مَوْتَى على وَجْهِ الأرض كأنَّهم أعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ودمَّرَتْ مَا مَرّتْ عليه مِنْ دِيارِهِمْ وحُرُوثِهِمْ وزُرُوعِهِمْ وَدَوابِّهِمْ حتى صارُوا عِبْرةً للأُمَمِ إلى يومِ القِيامة.
وَمَا الذي أرْسل على قومِ ثَمُودَ الصَيْحَةَ حتى قَطَعَتْ قُلوبَهم في أَجْوَافِهِمْ وَماتُوا عن آخِرِهم، وما الذي رَفَعَ قُرى اللُوطيّةِ حتى سَمعتْ الملائكةُ نِبَاحَ كِلابِهم ثم قَلَبَها عليهم فَجَعَل عالِيها سافِلَها فأهلكهم جميعًا ثم أَتْبَعَهم حجارةً مِنْ السماءِ أَمرَها عليهم فجمع عليهم مِنْ العُقوبَةِ ما لم يَجْمعه على أًمَّةٍ غيرِهِم، ولإِخوانِهِم أمثالهُا قال تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.
وَمَا الذي أرسل عَلى قَوم شُعَيْبٍ سَحَابَ العذاب كالظُّلَل فَلَمَّا صَارَ فوقَ رؤوسِهمْ أَمْطَرَ عليهم نارًا تلظَّى. وَمَا الذي أَغْرَقَ فرعونَ وقومَهُ في البحر ثم نُقِلَتْ أرْوَاحُهُم إلى جَهَنَّمَ، فالأَجْسَادُ لِلْغَرَقِ والأَرواحُ لِلْحَرَقِ، وَمَا الذي خَسَفَ بقارُونَ ودَارِهِ ومالِهِ وأهْلِهِ. وَمَا الذِي أهلَكَ القُرُونَ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ بأنواع العُقوباتِ ودَمَّرها تدميرًا. وَمَا الذي أهلكَ قومَ صاحِبِ يس بالصيحِة حتى خَمَدُوا عنْ آخِرِهِم.
وَمَا الذي بعثِ على بني إسْرائيلَ قومًا أُولي بأسٍ شديدٍ فجاسُوا خِلال الدِّيارِ وَقَتلوا الرِجالِ وسَبَوُا الذُرّيةَ والنساءَ، وأحْرقوا الديارَ ونَهبُوا الأموالَ، ثم بَعَثَهُم عليهم مَرَّةً ثانِيَةً فأَهْلَكُوا ما قَدِرُوا عليه وتَبَّروا ما عَلَوْا تتْبيرًا، وَمَا الذِي سَلَّط عليهم أنواعَ العُقوباتِ مَرَّةً بالقتل والسَّبْي وخَراب البلادِ ومِرَّةً بِجَور الملوكِ ومَرَّةً بمَسْخِهِمْ قِرَدَةً وخنازيرَ وآخِرُ ذلك أقسم الربُّ تبارك وتعالى لَيَبْعَثنَّ عليهم إلى يوم القيامة مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العذاب. اللَّهُمَّ أتْمِمْ عَلَيْنَا نِعْمَتَكَ الوَافِيَةَ وَارْزُقْنَا الإخْلاص فِيْ أعْمَالِنَا وَالصِّدْقَ في أَقْوَالِنَا وَعُدْ عَلَيْنَا بإصْلاح قُلُوبِنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
دَعُونِي عَلَى نَفْسِيْ أَنُوحُ وأَنْدُبُ ** بِدَمْعٍ غَزِيرٍ وَاكِفٍ يَتَصَبَّبُ

دَعُونِي عَلَى نَفْسِيْ أَنُوحُ فإِنَّني ** أَخُافُ على نَفْسِي الضَّعِيفةِ تَعْطَبُ

وَإِنِي حَقِيقٌ بالتَضرُّع والبُكَا ** إذا مَا هَذَا النُّوامُ واللَّيْلُ غَيْهَبُ

وَجَالَتْ دَوَاعِي الحُزِنِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ** وغَارَتْ نُجُومُ اللَّيْلِ وانْقضَّ كَوْكَبُ

كَفَى أَنَّ عَيْنِي بِالدُمُوعِ بَخِيْلَةٌ ** وأَنِّي بآفَاتِ الذُنُوبِ مُعَذَّبُ

فَمَنْ لِي إِذا نَادَىَ المُنادِي بِمَنْ عَصَى ** إِلَى أَيْنَ إِلْجَائِي إِلَى أَيْنَ أَهْرُبُ

وَقَدْ ظَهَرَتْ تِلْكَ الفَضَائِحُ كُلُّهَا ** وَقَدْ قُرِّبَ المِيزانُ والنارُ تَلْهَبُ

فَيَا طُولَ حُزْنِي ثُمَّ يَا طُولَ حَسْرَتِي ** لَئِنْ كُنْتُ في قَعْرِ الجحِيمِ أُعَذَّبُ

فَقَد فَازَ بالمُلْكِ العَظيمِ عِصَابةٌ ** تَبيتُ قِيَامًا في دُجَى اللَّيلِ تَرْهَبُ

إِذا أَشْرَفَ الجَبَّارُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ ** وقد زُيِّنتْ حُورُ الجِنانِ الَكوَاعِبُ

فَنَادَاهُمُ أَهْلاً وسَهْلاً وَمَرْحَبًا ** أَبَحْتُ لَكُمْ دَارِي وما شِئْتُمُ اطْلُبُوا

قال العلماءُ: وتعظُمُ الصغيرةُ بأسبابٍ منها: أنْ يَسْتَصْغِرَها الإِنسانُ ويَسْتَهينَ بها فلا يَغْتمَّ بسبَبِها ولا يُبَالي، ولكنَّ المؤمنَ المُجِلَّ للهِ المُعَظِّمَ له هو المستعظمُ لِذَنْبِهِ وإنْ صَغُر فإنَّ الذنْبَ كُلَّما استعظَمَهُ العَبْدُ َصَغُرَ عِنْدَ اللهِ تعالى وكُلَّما استصغرَهُ كَبُرَ عِنْدَ اللهِ تعالى فإنَّ استعظامَهُ يَكونُ عَنْ نُفُورِ القلبِ مِنْهُ وكَراهيَتِهِ لَهُ.
قال ابنُ مسعودٍ: إنَّ المؤمنَ يَرَى ذَنْبَهُ كَأَنَّهُ في أَصلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذَنْبَهُ كذُبابٍ وقَعَ على أنفِهِ فقال بِهِ هَكَذَا، أخْرجاه في الصحيحين. وفي البُخاري مِنْ حَديثِ أنسٍ رضي الله عنه:
إنكُمْ لَتَعْلَمون أَعْمَالاً هِي أَدَقُّ في أعْينِكُم مِنْ الشَّعْر كُنَّا لَنَعُدُّها على عَهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ المُوبِقَاتِ.
وقَالَ بلالُ بنُ سعدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا تَنْظُرْ إِلى صِغَرِ الخَطِيئةِ ولكنْ انظُرْ إلى عَظَمَةِ مَنْ عَصَيْتَ. ومنها: السُرورُ بِها والتَبَجُّجُ بسبَبها واعتِقَادُ التَّمَكُّنِ منها نِعْمةً حتى إنَّ المُذنِبَ المُجاهِر بالمَعَاصِي لَيَفْتخِرُ بها فيقولُ: ما رَأَيْتَنِي كَيف شَتَمتُهُ وكَيْفَ مَزَّقْتُ عِرْضَه وَكَيْفَ خَدَعْتُهُ في المُعَامَلةَ.
ومنها: أن يَتَهَاونَ بِستْرِ اللهِ عَلَيهِ.
ومنها: أن يُجاهِرَ بالذنْبِ ويُظْهِرَهُ وَيَذْكُرَهُ بَعْدَ فِعْلِهِ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كلُ أُمَّتِي مُعًافى إِلا المُجاهِرُون». ومِنها أنْ تَصْدُرَ الصغيرةُ عنْ عالمِ يُقْتَدَى بِهِ فَذَلِكَ عظيمٌ، لأَنه يَتْبَعُهُ عليها خَلْقٌ كثيرٌ، ويَبْقَى أثَرُهَا بَعْدَهُ. واللهُ أَعْلَمْ. اللَّهُمَّ أَيْقَظْنَا مِن نَوْم الغَفْلَةِ ونَبِّهْنَا لاِغْتِنَامِ أَوقَاتِ المُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لِمَصَالِحِنَا واعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحِنَا وَذُنُوبِنَا ولا تُوآخِذْنَا بِمَا انْطَوتْ عليه ضَمَائِرُنُا وَأَكَنَّتْهُ سَرَائِرَنَا واغفر لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وصلى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعين.

.فصل: مِن نَصِيحَةِ وَالدٍ لَوَلَدِهِ:

اعْلَمْ أَنَّ مَن تفكر في الدنيا قبلَ أن يُوجد رَأَى مُدَّةً طَوِيلَةً، فإذَا تَفَكَّرَ فيها بَعدَ أَن يَخْرُجُ منها رأيي مدةً طويلةً وعَلَمَ أن اللبُثَ في القبور طويل، فإذَا تفكر في يوم القيامة عَلَم أنه خمسون ألف سنَة.
فإذا تفكرَ في اللبثِ في الجنةِ أو النار عَلِمَ أنه لا نهايةَ لَهُ. فإذا عَاد إلى النظر في مِقدار بَقَائِهِ في الدنيا فَرَضْنَا ستِين سنة مثلاً فإنه يَمضي منها ثلاثون سَنَة في النوم، ونحو مِن خمسَ عَشرَ في الصِبى.
فإذا حسب الباقي كان أكثره في الشهوات والمطاعِم والمَكاسِبِ فإذا خَلَصَ ما لِلآخِرَةِ وَجَدَ فيه مِن الرياء والغَفْلَةِ كَثِيرًا، فبماذا تَشْتَري الحياةَ الأبديةَ وإنما الثمنُ هذهِ الساعات؟
فانتبه يا بُنَيَّ لنفسْك، واندم على ما مضى من تفريطك واجتهد في لحاق الكاملين ما دام في الوقت سعة. واسْقِ غُصْنَكَ، مادامتْ فيه رُطوبة، واذكر سَاعَتَكَ التي ضاعَتْ فكَفَى بها عِظَةٍ.
ذَهَبتْ لَذةُ الكَسَلِ فيها وفاتَتْ مراتبُ الفضائل.
وقد كان السلف الصالح رحمهم الله يُحِبُّونَ جَمْعَ كُلِ فَضيلة ويبكون على فواتِ واحدةٍ منها.
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: دَخَلنَا على عابد مَريض، وهو يَنْظُر إلى رجليه ويبكي، فقلنا: مَالَكَ تَبْكي؟ فقال: ما اَغَبَرَّتا في سبيل الله. وَبَكىَ آخرُ، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: عليّ يوم مضى ما صمتُهُ وعلي ليلةَ ذَهبتْ ما قمتها.
واعلم يا بُني أن الأيام تُبْسِطُ ساعات، والساعات تبسط أَنفَاسًا، وَكُلُ نَفَسٍ خِزَانَةٌ، فاحْذَرْ أَن يَذهبَ نَفَسٌ بغيرِ شَيء، فَتَرَى في القيامة خِزَانَةٌ فَاِرَغةً فَتَنْدَمَ وَلا ينفعكَ الندم.
وَالوَقْتَ أَنْفَسُ ما عُنِيْتَ بِحْفظِهِ ** وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَليْكَ يضِيْعُ

آخر:
يَا جَامِعَ المَالِ الكثيرِ لِغَيرِهِ ** إِنَّ الصغِّيرَ مِن الذُّنُوبِ كَبِيرُ

هَل في يَدَيْكَ عَلَى الحَوَادِثِ قُوَّةٌ ** أَمِ هَلِ عَليَكْ َمِنَ المنُونِ خَفَيرُ

أَمْ مَا تَقُولُ إِذَا ضَعَنْتَ إِلى الليلِي ** وإِذَا خلا بك مُنْكَرٌ وَنَكِيرُ

آخر:
مَشَيبُ النَّوَاصِي لِلْمَنُونِ رَسُولُ ** يُخَبِّرُنَا أَنَّ الثَّواءَ قَلِيلُ

فَصيحُ إِذا نَادىَ وإَِنْ كَانَ صَامِتًا ** مُثيرُ المعَانِي لِلنُّفوسِ عَذُولُ

فُوا عَجَبًا مِن مُوقِنِ بِفَنَائِهِ ** وآمَالُه تَنْمُوا ولَيسَ يَحُولُ

أَمِن بَعْدِما بعد جَاوَزْتَ سَبْعين حَجَّةً ** وقد آنَ مِنِّي لِلقُبورِ رَحِيلُ

أُئَمِلُ آمَالاً وأَرْغَبُ في الغِنَى ** بِدارٍ غنَاهَا يَنْقَضِي وَيزُولُ

وإِنَّ إمْرًا دُنْيَاهُ أَكْبَرُ هَمهِ ** وَيُؤْثِرُهَا حُبًا لَهَا لَجَهُولُ

فَكَمْ عَالِمٍ والجَهْلُ أَوْلَى بِعِلْمِهِ ** لَهُ مَقْوَلٌ عِنْدَ الخِطَابَ طَوِِيلُ

وَكَمْ مِنْ قَصِيرٍ في عُلُوم كَثِيرَةٍ ** لَهُ مَخْبَرٌ لِلصَّالِحَاتِ وَصُولُ

فَمَا العِلْمُ إلا خَشْيَةُ الله والتُقَى ** فكلُ تِقِي في العُيونِ جَلَيلُ

فيا رَبِ قَدْ عَلَّمْتَنِي سُبُلَ الهُدَى ** فأصْبَحْتُ لا يَخْفَى عَلّي سَبِيلُ

ويَا رَبَّ هَبْ لي مِنْكَ عَزمًا على التُقى ** فَأَنْتَ الذِي مَا لي سِوَاهُ يَنِيلُ

آخر:
المرءُ يَجْمعُ والدُّنيا مُفرِّقَةٌ ** والعُمْرُ يَذْهَبُ والأَيَّامُ تُخْتَلِسُ

ونَحْنُ نَخْبطُ في ظَلْمَاءَ لَيسَ بها ** بَدْرٌ يُضِيءُ ولا نَجْمٌ ولا قَبَسُ

فَكَمْ نُرِتِّقُ خَرْقًا لَيسَ مُرتَتِقًا ** فِيها ونَحْرُسُ شَيئًا لَيس يَنْحَرسُ

وكَمْ نَذِلُّ وفِينَا كلُّ ذِي أَنَفٍ ** وَنَسْتَكِينُ وفِينَا العزُّ والشَّوَسُ

وكيفَ يَرْضَى لَبِيبٌ أَنْ يَكُونَ لَهُ ** ثُوْبٌ نَقِيٌ وعِرْضٌ دُونَه دَنِسُ

اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا القيامَ بحقِك، وباركْ لنا في الحلالِ مِنْ رِزقِكَ، ولا تفضحنا بين خلقك، يا خيرَ مَنْ دعاه داعٍ وأفضلَ مَنْ رجاه راج يا قاضِيَ الحاجات ويا مجيبَ الدعواتِ هَبْ لنا ما سألناه وحَقِّقْ رجاءَنا فيما تمنيناه وأمّلْناه يا مَنْ يملكُ حوائجِ السائلينَ ويعلمُ ما في ضَمائر الصامتين، أذنا بِردَ عفوك، وحلاوة مَغْفِرَتِك، يا أرحمَ الراحمين.
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبِنَا واجْعَلِ الإيمانَ لَنَا سِراجًا ولا تَجْعَلَهُ لَنَا اسْتِدْرَاجًا واجْعَلْهُ لَنَا سُلَّمًا إلى جَنَّتِكْ ولا تَجْعلهُ لنا مَكْرًا مِنْ مَشيئَتِكْ إِنَّك أنْتَ الحليمُ الغفورُ الشَّكُورُ يا أرحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.